فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: ابتداء تلك المدة يوم النحر لعشر من ذي القعدة إلى انقضاء عشر من شهر ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النسيء الذي كان فيهم ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض» وإلى ذلك ذهب الجبائي، واستصوب بعض الأفاضل الثاني وادعى أن الأكثر عله، روي من عدة أخبار متداخلة بعضها في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشًا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ودخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منها وأعانتهم قريش بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم خرج عمرو الخزاعي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشد:
لاهم إني ناشد محمدا ** حلف أبينا وأبيه الا تلدا

قد كنتم ولدا وكنا والدا ** ثمت أسلمنا ولم ننزع يد

فانصر هداك الله نصرًا أعتدا ** وادعو عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا ** إن سيم خسفا وجهه تربدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا ** أن قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا مبثاقك المؤكدا ** وجعلوا لي من كداء رصدا

وزعموا أن لست أدعو أحدا ** وهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالحطيم جهدا ** وقتلونا ركعا وسجدا

فقال عليه الصلاة والسلام: «لا نصرت إن لم أنصرك» ثم تجهز إلى مكة ففتحها سنة ثمان من الهجرة فلما كانت سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج فقال: إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة فبعث عليه الصلاة والسلام تلك السنة أبا بكر رضي الله تعالى عنه أميرًا على الناس ليقيم لهم الحج وكتب له سننه ثم بعث بعده عليًا كرم الله تعالى وجهه على ناقته العضباء ليقرأ على أهل الموسم صدر براءة فلما دناه علي كرم الله تعالى وجهه سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم وقام علي كرم الله تعالى وجهه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: أيها الناس إني رسول الله تعالى إليكم فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية من السورة ثم قال: أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده، واختلفت الروايات في أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه هل كان مأمورًا أو لا بالقراءة أم لا والأكثر على أنه كان مأمورًا وأن عليًا كرم الله تعالى وجهه لما لحقه رضي الله تعالى عنه أخذ منه ما أمر بقراءته، وجاء في رواية ابن حبان وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه حين أخذ منه ذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخله من ذلك محافة أن يكون قد أنزل فيه شيء فلما أتاه قال: مالي يا رسول الله؟ قال: خير أنت أخي وصاحبي في الغار وأنت معي على الحوض غير أنه لا يبلغ عني غيري أو رجل مني.
وجاء من رواية أحمد.
والترمذي وحسنه.
وأبو الشيخ، وغيرهم عن أنس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه ثم دعاه فقال: «لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي فدعا عليًا كرم الله تعالى وجهه فاعطاه اياه».
وهذا ظاهر في أن عليًا لم يأخذ ذلك من أبي بكر في الطريق وأكثر الروايات على خلافه، وجاء في بعضها ما هو ظاهر في عدم عزل أبي بكر رضي الله تعالى عنه عن الأمر بل ضم إليه علي كرم الله تعالى وجهه.
فقد أخرج الترمذي وحسنه. والبيهقي في الدلائل. وابن أبي حاتم. والحاكم وصححه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليًا وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات فحجا فقام علي رضي الله تعالى عنه في أيام التشريق فنادى أن الله بريء من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن فكان علي كرم الله تعالى وجهه ينادي فإذا أعيا قام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فنادى بها وأيا ما كان ليس في شيء من الروايات ما يدل على أن عليًا رضي الله تعالى عنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغ عني غيري أو رجل مني سواى كان بوحي أم لا» جار على عادة العرب أن لا تولى تقرير العهد ونقضه إلا رجل من الأقارب لتنقطع الحجة بالكلية، فالتبليغ المنفى ليس عامًا كما يرشد إلى ذلك حديث أحمد والترمذي.
وكيف يمكن إرادة العموم وقد بلغ عنه صلى الله عليه وسلم كثيرًا من الأحكام الشرعية في حياته وبعد وفاته كثير ممن لم يكن من أقاربه صلى الله عليه وسلم كعلي كرم الله تعالى وجهه ومنهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه فانه في تلك السنة حج بالناس وعلمهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سنن الحج وما يلزم فيه وهو أحد الأمور الخمسة التي بنى الإسلام عليها، على أن من أنصف من نفسه علم أن في نصب أبي بكر رضي الله تعالى عنه لإقامة مثل هذا الركن العظيم من الدين على ما يشعر به قوله سبحانه: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] الآية إشارة إلى أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة شعائر دينه لاسيما وقد أيد ذلك بإقامته مقامه عليه الصلاة والسلام في الصلاة بالناس في آخر أمره عليه الصلاة والسلام وهي العماد الأعظم والركن الأقوم لدينه عليه الصلاة والسلام في الصلاة بالناس، والقول بأنه رضي الله تعالى عنه عزل في المسألتين كما يزعمه بعض الشيعة لا أصل له وعلى المدعى البيان ودونه الشم الراسيات.
وبالجملة دلالة لا ينبغي إلخ على الخلافة مما لا ينبغي القول بها، وقصارى ما في الخبر الدلالة على فضل الأمير كرم الله تعالى وجهه وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمن لا ينكر ذلك لكنه بمعزل عن اقتضائه التقدم بالخلافة على الصديق رضي الله تعالى عنه.
وقد ذكر بعض أهل السنة نكتة في نصب أبي بكر أميرًا للناس في حجهم ونصب الأمير كرم الله تعالى وجهه مبلغا نقض العهد في ذلك المحفل وهي أن الصديق رضي الله تعالى عنه لما كان مظهرًا لصفة الرحمة والجمال كمال يرشد إليه ما تقدم في حديث الاسراء وما جاء من قوله صلى الله عليه وسلم أرحم أمتي بأمتي أبو بكر أحال إليه عليه الصلاة والسلام أمر المسلمين الذين هم مورد الرحمة، ولما كان علي كرم الله تعالى وجهه الذي هو أسد الله مظهر جلاله فوض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر فكانا كعينين فوارتين يفور من احداهما صفة الجمال ومن الأخرى صفة الجلال في ذلك المجمع العظيم الذي كان انموذجا للحشر وموردًا للمسلم والكافر انتهى.
ولا يخفى حسنه لو لم يكن في البين تعليل النبي صلى الله عليه وسلم.
وجعل المدة أربعة أشهر قيل لأنها ثلث السنة والثلث كثير، ونصب العدد على الظرفية لسيحوا أي فسيحوا في أقطار الأرض في أربعة أشهر {واعلموا أَنَّكُمْ} لسياحتكم تلك {غَيْرُ مُعْجِزِي الله} لا تفوتونه سبحانه بالهرب والتحصن {وَأَنَّ الله مُخْزِى الكافرين} في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالعذاب المهين، وأظهر الاسم الجليل لتربية المهابة وتهويل أمر الاخزاء وهو الاذلال بما فيه فضيحة وعار، والمراد من الكافرين اما المشركون المخاطبون فيما تقدم والعدول عن مخزيكم إلى ذلك لذمهم بالكفر بعد وصفهم بالاشراك وللاشعار بأن علة الاخزاء هي كفرهم واما الجنس الشامل لهم ولغيرهم ويدخل فيه المخاطبون دخولًا أوليًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَسِيحُواْ في الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}.
الفاء للتفريع على معنى البراءة، لأنّها لمّا أمر الله بالإذان بها كانت إعلامًا للمشركين، الذين هم المقصود من نقض العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين، فضمير الخطاب في فعل الأمر معلوم منه أنّهم الموجه إليهم الكلام وذلك التفات.
فالتقدير: فليسيحوا في الأرض ونكتة هذا الالتفات إبلاغ الإنذار إليهم مباشرة.
ويجوز تقدير قول محذوف مفرّع على البراءة من عهودهم، أي فقل لهم: سيحوا في الأرض أربعة أشهر.
والسياحة حقيقتها السير في الأرض.
ولمّا كان الأمر بهذا السير مفرّعًا على البراءة من العهد، ومقرّرًا لحرمة الأشهر الحرام، علم أنّ المراد السير بأمن دون خوف في أي مكان من الأرض، وليس هو سيرهم في أرض قومهم، دلّ على ذلك إطلاق السياحة وإطلاق الأرض، فكان المعنى: فسيحوا آمنين حيثما شئتم من الأرض.
وهذا تأجيل خاصّ بعد البراءة كان ابتداؤه من شوال وقت نزول براءة، ونهايته نهاية محرّم في آخر الأشهر الحرم المتوالية، وهي: ذو القعدة وذو الحجّة والمحرم.
وهذا قول الجمهور قال ابن إسحاق: وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم ليرجع كلّ قوم إلى مأمنهم وقال بعضهم: هي أربعة أشهر تبتدئ من عاشر ذي الحجّة وتنتهي في عاشر ربيع الآخر، فيكون قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} [التوبة: 5] (أي من ذلك العام) تنهيةً لذلك الأجل روعي فيها المدّة الكافية لرجوع الناس إلى بلادهم، وذلك نهاية المحرّم.
وقيل: الأشهر الأربعةُ هي المعروفة عندهم في جميع قبائِل العرب وهي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورَجب، أي فلم يبق للمشركين أمْنٌ إلاّ في الأشهر الحرم وعلى هذا فليس في الآية تأجيل خاصّ لتأمينهم، ولكنّه التأمين المقرّر للأشهر الحرم فيكون المعنى: البراءة من العهد الذي بينهم فيما زاد على الأمن المقرّر للأشهر الحرم.
وحكى السهيلي في الروض الأنف أنّه قيل إنّه أراد بانسلاخ الأشهر الحرم ذا الحجّة والمحرم من ذلك العام، وأنّه جعل ذلك أجلًا لمن لا عهد له من المشركين ومن كان له عهد جعل له عهد جعل له أربعة أشهر أولها يوم النحر من ذلك العام.
وفي هذا الأمر إيذان بفرض القتال في غير الأشهر الحرم، وبأنّ ما دون تلك الأشهر حَرب بين المسلمين والمشركين، وسيقع التصريح بذلك.
{واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَأَنَّ الله مُخْزِى الكافرين}.
عطف على {فسيحوا} داخل في حكم التفريع، لأنّه لمّا أنبأهم بالأمان في أربعة الأشهر عقبه بالتخويف من بأس الله احْتراسًا من تطرّق الغرور، وتهديدًا بأنّ لا يطمئنوا من أنْ يسلّط الله المسلمين عليهم في غير الأشهر الحرم، وإن قبعوا في ديارهم.
وافتتاح الكلام بـ {واعلموا} للتنبيه على أنّه ممّا يحقّ وعيه، والتدبر فيه، كقوله: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} في سورة الأنفال (24)، وقد تقدّم التنبيه عليه.
والمُعجز اسم فاعل، من أعجز فلانًا إذا جعَله عاجزًا عن عمل مَّا، فلذلك كان بمعنى الغالب والفائِت، الخارج عن قدرة أحد، فالمعنى: أنّكم غير خارجين عن قدرة الله، ولكنّه أمّنكم وإذا شاء أوقعكم في الخوف والبأس.
وعُطف قوله: {وأن الله مخزي الكافرين} على قوله: {أنكم غير معجزي الله} فهو داخل في عمل {واعلموا} فمقصود منه وعيه والعلم به كما تقدم آنفًا.
وكان ذكر {الكافرين} إخراجًا على خلاف مقتضى الظاهر: لأنّ مقتضى الظاهر أن يقول: وإنّ الله مخزيكم، ووجه تخريجه على الإظهار الدلالة على سبيبة الكفر في الخزي.
والإخزاء: الإذلال.
والخزي بكسر الخاء الذلّ والهوان، أي مقدّر للكافرين الإذلال: بالقتل، والأسر، وعذاب الآخرة، ما داموا متلبّسين بوصف الكفر. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)}
والخطاب هنا للمشركين. وتساءل البعض: كيف يتأتى أن يكون خطاب الحق في الآية الأولى للمسلمين بالبراءة من المشركين، ثم يأتي خطاب من الله للمشركين؟. وقال بعض العلماء إنه ما ما دامت البراءة قد صدرت من الله، فكأن الله تعالى يقول للمؤمنين قولوا للمشركين: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2].
ولكننا نرد على هذا بأن المعاهدة تكون بين اثنين، ولذلك لابد أن يكون هناك خطاب للذين قطعوا، وخطاب للمقطوعين، ويتمثل خطاب الذين قطعوا في قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} [التوبة: 1].
وخطابه للمقطوعين يتمثل في قوله سبحانه وتعالى: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2].
ومن سماحة هذا الدين الذي أنزله الحق تبارك وتعالى؛ أن المولى سبحانه يعطي مهلة لمن قطعت المعاهدة معهم، فأعطاهم مهلة أربعة أشهر حتى لا يقال إن الإسلام أخذهم على غرة، بل أعطاهم أربعة أشهر ومن كانت مدة عهد أكثر من أربعة أشهر فسوف يستمر العهد إلى ميعاده.
{فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2].
وكلمة {فسيحوا} تعطي ضمانًا إيمانيا، فساح معناها سار ببطء، وهناك ساح الشيء وسال الشي عندما تقول: سال الماء أي تدفق وسال، وأنت تشاهده سائلا. وإن قلت: ساح السمن أي سار ببطء لا يدرك حتى صار سائلا. ولماذا قال الحق سبحانه وتعالى: {فَسِيحُواْ فِي الأرض}؟.